
قلبٌ حالمٌ… في زمنٍ صَعْب!
لم تكن معرفتي بأدباء وباحثي محافظة الحسكة ومدنها قبيل عام 1998م إلا من صفحات الكتب أو المجلات، يومئذٍ كنت أتمتم حروفي الأولى، في تجربة شعرية قيدتها محاكاة المتقدمين، وهذبتها الممارسة وعِشرة عدد من الأصدقاء، أخصُّهم صديقنا الشاعر عبد السلام العبوسي، بلونه المتفرِّد وحسِّه المرهف وصوره البديعة، ثم الصديق الشاعر فرج الحسين، بطعمٍ آخر يمتحُ من مفردات اللهجة المحلية؛ لينتقي معجمًا لغويًا لشعره، طبعَه بسمة خاصة تميزه عن غيره.
كنا ثلاثة من يتامى الشعر في بلدة عاقرٍ، تمتد فيها ظلال باهتة لثقافة رسمية، على هامش صغير لا يقرؤه كثيرٌ من الناس، كانت صلة الوصل بيننا ليل صيفيٍّ، يفضي كل منا إلى صاحبه بقصيدة جديدة، أو يخوض في مسألة أدبية تتوزعها وجهات النظر المختلفة، وما تكاد تضيء تلك اللقاءات بنور؛ حتى أخذت تخفت من جديد في زحمة الأحداث الأخيرة التي مُنِيَتْ بها سوريتنا.
كان لكل منا خطه ولونه ومعجمه واهتماماته، وكان أقدمنا في التجربة الشعرية، وأقدرنا على الخلق الشعري عبد السلام الذي مازج الشعر لحمه ودمه!
كنت منجمعًا على نفسي أميل للبحث والدراسات كثيرًا، ويستهويني الشعر والقصة والأدب أيضًا، وكان البحث يومئذٍ عن مسائل تتعلق بتراث المنطقة وبعض قبائلها، في محاولة لأرشفة ما يمكن جمعه، من نتف خلفها الأسلاف، واحتفظت بها ذاكرة المسنين!
يومها وقع بيدي كتاب (تساؤلات بلا ضفاف) للأستاذ أحمد الحسين، وكان قلمه مغمَّسًا بروح ناقدة، وينصب على مواضيع متعددة، يجمعها أنها من واقعنا المحلي المعاش، لم أكن أعرف المؤلف ولا اعتقدت أنه من المنطقة أبدًا، لكن وقفت على فصول منتقاة بعناية، كتبت بقلم سهل سَبط، في مقالات مركَّزة تستهوي العقل وتثير الفكر، كانت تلك المقالات تنتهي بلازمة دائمة، تلخص الموضوع بسؤال معلَّق، يحتاج إلى إجابة بل إجابات!
وكان من بين تلك الفصول مقالٌ يتحدَّث عن (أزمة كتب العشائر)، ويقدم نقدًا على بعض تلك الكتب التي لا تعرض الحقائق، ولا تعود بأية فائدة ثقافية ولا اجتماعية، إنما سيل من الممادح لمن يدفع أكثر!
ثم عرفت الأستاذ أحمد الحسين في كتابه الآخر حول أدب الكدِّية، وبقي العنوانان في ذاكرتي طويلًا؛ حتى رأيت نقدًا على كتابه الأخير من ناقد من الحسكة، ووجدت في نقده ثغرة يمكنني فيها أن أناقشه؛ فكتبت في ذلك وأرسلته إلى الأستاذ الناقد، الذي لم يرقه ما فيه؛ فكتب على نقدي كلامًا، لم يتناول ما أبديته عليه ولا حاول معالجته، ثم التقيت بذلك الناقد بعدها في حوار عابر، لم يتح لي عرض كل ما في نقده للأستاذ أحمد، وكانت دهشته أني مَن كتب ذلك النقد رغم صغر سني يومذاك، ورأيته مترفعًا وربما نادمًا؛ لأنه تنزَّل فكتب ردًا على نقدي!
قرأت الأستاذ أحمد من كتبه، قرأته ودافعت عن رؤيته، دون سابق معرفة، لكن حب القراءة جمعتنا بوشيجة رحم واحدة؛ فكان دفاعي عنه متقدِّمًا على معرفتي الشخصية به.
ومرت سنوات لأشارك في مسابقة لمديرية الأوقاف حول مدحية نبوية كانت لي قصيدة فيها، يومها دعانا الشاعر جاك شماس إلى داره، وكان بين المدعوِّين الأستاذ أحمد الحسين، وكانت فرحتي غامرة إذ لقيته بشحمه ولحمه!
دار حوار بيني وبينه، وكان معترضًا على بعض المسائل وكنت أخالفه فيها، ولعل منها ما يتعلق بالكتابة عن البقية الباقية من حديث عن الأنساب لأسلافنا في المنطقة، والذي أذكره أنَّا انشغلنا بالنقاش إلى درجة أنَّا نسينا الغداء، الذي كان ينتظر انتهاء تلك المناقشة؛ التي لم تخلُ من مدافعة لمحاولة إثبات ما أظنه صوابًا.
ثم تعددت اللقاءات على هامش عدد من المسابقات الشعرية والقصصية، كنت أشارك فيها، فعرفت أبا رياض عن قرب رجلًا كبيرًا وقورًا، لطيف المعشر متواضعًا، حالِمًا مليئًا بالثقافة، يفصح كلامه عن رؤية وحكمة، محبًّا للآخرين يقدمني رغم صغر سني في كثير من الأمور، وأنا أجد نفسي أصغر من ذلك.
أحببت فيه صفة الأب الحاني الرقيق، والمثقف الذي يحمل من ملامح الكبار الشيء الكثير، فيستهويك أن تنصت جيدًا لحديثه الهادئ، غيورًا على بقية الإرث المحلي الذي بدأت تمحوه الظروف الأخيرة، ويجهله الجيل الذي بات بعيدًا عن واقعه!
كان سعي الأستاذ أحمد رغم كل المصاعب التي تحيط بنا في لملمة ما تبقى من تراث مادي ومعنوي، تحت ظلِّ جمعية صفصاف الخابور، التي أنشأها مع نخبة من الأدباء والشعراء والمثقفين الكبار، يحدوهم الشغف للمعرفة والأدب، فكانوا منفذ النور الذي بدأ سناه يضيء شيئًا من الأمل في نفوسنا المرهقة القابعة على همومها، رغم الأيام التي مرت بنا، وهي تزداد حلكة وظلامًا استطاع الأستاذ أحمد أن يكون بؤرة النور المتسلل إلى تلك النفوس الحائرة.
وحين كنت بين المشاركين بمسابقة للقصة في الحسكة ذهبت وحيدًا، وكانت أوَّل تجربة لي، ولم أكن أعرف الكثير من الأدباء إلا معرفة عابرة، كان الأستاذ أحمد حاضرًا فجلست قربه، أحسست بأني قرب أبي بحنوه ولطفه وحسن ترفُّقه بي؛ وحين كنت بين الفائزين فرح الأستاذ كثيرًا، هنأني يومها وأشاد بي وبما كتبت، وكان حولنا بعض المشاركين فكان يخبرهم بفوزي، والفرح يبدو على كلماته ويضيء في عينيه، كان موقفًا من كثير من المواقف التي لا أنساها له أبدًا.
المواقف الجميلة التي مرت بي مع الأستاذ أحمد كثيرة، يعبر بعضها عن ذكريات خاصة، وقد لا يرى القارئ ضيرًا من الوقوف عندها، لأنها عندي صُوىً تشير إلى أنفس راقية تعيش بيننا، ويحق لها أن تُرفَع عنها الغواشي؛ ليعرفها الآخرون، ويشار إليها بالبنان وتذكر على ما قدمت من جميل!
وقد لا يفسح هذا المقال لرصد كل تلك المواقف، لكنها بالعموم ترصد ذلك الشغف الذي لا يعكره سنُّ الأستاذ المتقدِّم، فقد كان يأتي إلى مدينة القامشلي في جو حارٍّ وظروف غير آمنة أحيانًا؛ ليهيِّئ مهرجانًا أو حفلًا في المركز الثقافي العربي، ويكون حريصًا على أن نحضر جميعنا، لنلتفَّ حوله، ونلقي ما كتبناه من شعر، وهو يستمع ويشيد بما كتبناه!
كانت لقاءات خاطفة سريعة، لكنها خير ما يعبر عن ذلك القلب المسكون بالأمل والحالم بالجمال؛ ليترك بصمة متميزة رغم كل المعوِّقات في واقعنا السوري الأليم، بصمة يكون للجميع فيها حضور، فلا إثرة ولا كِبر ولا محاولة لفرض رأي، رغم الاختلاف الذي يكون عادة من تعدد وجهات النظر، في واقع يموج بكل اختلاف وتنوع.
كان أبو رياض رائد ذلك كله، كان هو القلب الذي ينبض بدمائنا كلَّ مرَّة في لقاءاته الجميلة، التي ألقت علينا كثيرًا من الأمل، ويحدوه التفاؤل الدائم، وأن الأمور سوف تأتي بخير لا محالة.
أطال الله عمر أستاذنا الكبير، وحفظه لنا ولا حرمنا حسَّه، وأبقاه لنا على خير.
في الصورة أستاذنا أحمد الحسين مع الصديق عبد السلام العبوسي