قصة قصيرة أَخْشَى أَنْ أَقُولَ إنَّهَا الْحَقِيقَة بِقَلَم الأديبة عَبِير صَفْوَت


 

قصة قصيرة
أَخْشَى أَنْ أَقُولَ إنَّهَا الْحَقِيقَة
بِقَلَم الأديبة عَبِير صَفْوَت

مَاذَا تَعَنَّى بِحَقّ السَّمَاء ؟ ! وَأَنْت تَتَحَدّث وَتَهُبّ الْحَدِيث
مَحْضٌ الصِّدْق ، لَن اِقْتَنَع بِالطَّبْع ، قَال الدكتور ” فريد” مُتَخَصِّصٌ فِى عِلْمِ النَّفْسِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، تَارَة بِلِسَان التَّنَكُّر وَتَارَة بِلِسَان الِاعْتِقَادِ حَتَّى آكَد لَهُ صَاحِبُ الْمِحْنَة :
مَا رَأَيْته عَيْن الصِّدْق ، وَاللّهَى كَمَال ذَلِكَ الْقَوْلِ كأننى أَرَاك , بَلِ اِسْتَمِعْ لِلْبَعْض مِنْهُم .

خرفات ، خرفات , قَالَ ذَلِكَ الدكتور ” فريد” وَهُو يَعْقِد
الِامْتِنَاعُ عَنْ هَذِهِ الفِكْرَة ، إِنَّمَا مَا ذَاد اللَّغَط بِعَقْلِه ، صَدِيقِه الشَّيْخ ” ميسر” حَتَّى قَالَ بِكَامِل إيمَانِه :
وَيْحَك يأخى الدكتور ” فريد” هَذَا مَوْضِعُ كُلِّ الْبُيُوتِ ، نَحْيَا
ببيوتنا
وَيَعِيش مَعَنَا اللَّذَيْنِ لَا نَرَاهُمْ . فَغَرَ فَاهُ الدكتور ” فريد”
يُسْتَنْكَر وَيَفِيض بِقَلْبِه الْخَوْف يُلْتَفَت والزعر يخامرة
بالخوار وَالضَّعْف ، وثالثهم الشَّتَات وَعَدَم الِاسْتِقْرَار . حَتَّى
آكَد لَهُ الشَّيْخُ ” ميسر” :
هَذِهِ الْحَالَاتِ نَادِرًا مَا تتعايش مَع الماضى فَتْرَة ، إلَى أَنْ يَأْتِىَ خِلَاف الْعَصْر عَصْرًا آخَر ، حِينِهَا تَتَحَرَّر ، وَرُبَّمَا يَرِث فَرْدًا مِنْ جِيلٍ الْفَتَى ذَلِك .

انْدَهَش الدكتور ” فريد” يُغَيِّرْ مِنْ بَنِيهِ الْأَمْر ، يُؤَكِّد :
الْفَتَى مَازَال صَغِيرًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِرْثِ هَذَى .

تَكَلَّم الْفَتَى ” قَاسِم ” تَارَة بِفَم يَصِفُ مَا يَتَحَدَّثُ عَنْهُ ، وَتَارَة بِمَا يَعْتَقِدُ وَيُحِسّ بِهِ عَقْلُهُ ، وَتَارَة بِمَا سَمِعْت أذْنِه مُؤَكَّدًا :
هَل رأيتمونى ؟ ! هَلْ أَنَا بِمَجْنُون ، تالهى أَنَا بِعَاقِل ، وَأَنَّى مُحَدِّثُكُم ، أَرَاهُم مِثْلَمَا رأيتمونى الْآن .

اِقْتَرَب الدكتور ” فريد” يَنْظُر الْفَتَى بِعَيْن الْمُتَابَعَة ، قَائِلًا :
” قاسم” يابنى ، الْعِلْم ماعلية ؟ ! لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَذْكُرْ .

اعْتَرَضَ الشَّيْخُ ” ميسر” قَائِلًا :
الْوَاقِع يَعْتَرِفُ بِما يَكُنْ بَيْنَ الْأَزْمِنَة وَيَعِيش وَنَحْنُ لَا نَرَاه .

خَرَج “قاسم” عَن شُعُورُه :
عَنْ مَاذَا تتحدثون ؟ ! عَنْ زَمَنِ وَاحِدٍ وَعَصْر وَاحِد ، إنَّمَا الشُّخُوص تَخْتَلِف ، فاللهى أَشْهَدُ أَنْ الزَّمَنَ لهذا التوقيت و هَذَا الْعَصْر الَّذِى أَرَاه للماضى أنذك .

تَعَجَّب الدكتور “فريد” قَائِلًا بَلَغَه أَدَبِيَّةٌ :
مُفَارَقَة زمنية ، تُطْوَى بَيْن صَفَحاتِها ، أَعاجِيب مِنْ الْأَحْدَاثِ .

صُمْت الشَّيْخ ” مُيَسَّرٌ ” رُؤْيَا ، حَتَّى قَالَ برصين الْأَمْر :

سأنتظر حَتَّى مُرُور السَّاعَةِ مَعَ الْفَتَى ، وَإِن يَأْتِى الْعَصْر
الْمَاضِي تُخْبِرُنِى لَأَرَى مَكْنُون أَمَرَه .

مَرَّت السَّاعَات وَتَبَيَّن اللَّيْل بمخابئة ، وذاد الْهَمْس ، اسْتَمَع
الفتى” قاسم” وَأَشَار لِشَيْخ الْأَرْوَاح ، بِمَا يَكُونُ ، حَتَّى تَرَكَهُ
الشَّيْخُ ” مُيَسَّرٌ ” فِى لَمْحِ البَصَرِ ، وَكَان لِلْآخَر مَوْضِع الظُّهُور بِمُلَابَسَة العصرية ، حَتَّى تفاجئت الْحِجَّة ” عَزِيزَةٌ ” وَابْنَتِهَا الْمَرِيضَة ، الَّتِى تُلْتَقَط أَنْفَاسُهَا
الْأَخِيرَة ، مِنْ تِلْكَ الْهَيْئَةِ الَّتِى تَجَلَّت تَنْظُر لَهُم بِوَجْه مُسْتَكِينٌ .

صَرَخَت الْحَاجَة ” عَزِيزَةٌ ” بِصَوْت يَجْهَر الْأَسْمَاع ، حَتَّى تَنَبَّهَ أَصْحَاب الْحَوَانِيت الْمُجَاوَرَة ، فَأَسْرَع كُلًّا مِنْهُمْ يُهَرْوِل أَسْفَل
القبو ، الَّتِى كَانَتْ تُحَيَّا فِى كَنَفِه الْحَاجَة ” عَزِيزَةٌ ” وَابْنَتِهَا
الْمَرِيضَة ، حَتّى قَالَتْ :

انقذونى ياعالم ، هَذَا الرَّجُلُ الْغَرِيبَ جَاءَ مِنْ الْفَرَاغِ .

حَتَّى اِنْقَضّ عَلَيْه سَاكِنَيْن أَهْل حَارَّة أَبُو لِبَدَه ، يلوكون الرَّجُل ضَرَبَات قَاسِيَة ، وَسِبَاب لَا خَلَاص لَه .

الْتَفَت الشَّيْخ ” ميسر” مُضَرَّج الدِّمَاء ، قَائِلًا يَلْتَقِط أَنْفَاسَه :

وَيُحْكَم يَأَهْل الْحَارَّة ، أَنَا إنْسَانٌ وَلَسْت مِلَاك الْمَوْتِ أَوْ شَيْطَانٍ ، قَدْ أَتَيْت رَسُولَ أَسْتَبِين الْأَمْر .

سَئل أَحَدُ رِجَالِ الْحَارَّة :

مَنْ أَنْتَ إذَا ؟ !

قَالَ الشَّيْخُ ” مُيَسَّرٌ ” :

أَنَا الشَّيْخُ “مُيَسَّرٌ” عَالِمٌ بِالْأَرْوَاح ، أَعِيش فِى عَام 2020 وَأَنْتُم إحْيَاء فِى هَذَا الْعَصْرِ 1930 ،وَهَذَا الْفَتَى بِالْقَرْن الْعِشْرِين
يَرَاكُم وَيَسْتَمِع لمأساكم ، بِلَا ذَنْبٍ لَهُ ؟ !

ضَحِك جَمِيع الْوُقُوف ، يَلْتَفِتُون كُلًّا مِنْهُمْ لِلآخَرِ ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ بدعابة :

إذَا نَحْنُ جَمِيعِنَا أَمْوَاتٌ .

جَلَس الشَّيْخ ” مُيَسَّرٌ” يراود نَفْسِه الثَّبَات قَائِلًا :

أَخْشَى أَنْ أَقُولَ إنَّهَا الْحَقِيقَة .

صَدَمَت الْحِجَّة “عزيزة ” تَقُول بِكُلّ
الْأَسَى :

يلا قَلْبِك الْعَطُوف أَيُّهَا الرَّجُلُ ، مِنْ أَيْنَ أَتَيْت لِتَصْبِر قَلْبِ الْأُمِّ الَّتِى سترحل ابْنَتِهَا بَعْدَ قَلِيلٍ ، إنَّمَا أَعْلَم اننى أَسْلَم أَمْرَى لِلَّه .

اِقْتَرَب الشَّيْخ ” مُيَسَّرٌ ” بِكُلّ خُطُوَات الْخَجَل والأسي متلسن بِالْحَقِيقَة :

أَعْتَذِرُ مِنْ الْجَمِيعِ ، وَأَعْلَن مِنْكُم أَهْل الْحَارَّة ، أَنَّكُم الماضى ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحْيَا وَالْمُمِيت أَعْمَارًا يتعدها عُمُرُ الْإِنْسَانِ بِمَرَاحِل .

صعقت الْحَاجَة ” عَزِيزَةٌ ” تَجْهَر بِغَيْر وَعَى :

مَا بَالُك أَيُّهَا الْغَرِيب ، هَل تَعَنَّى أَنَّنَا أَمْوَاتٌ ، وبنتى الْمَرِيضَة ذِكْرَى ، الْجَمِيع مَيِّتُون لَا مَحَالَةَ .

نَظَرُ الشَّيْخِ ” مُيَسَّرٌ ” لِتِلْك الفَتَاة الْمَرِيضَة ، حَتَّى قَالَ :
أَعْتَذِرُ مِنْ الْجَمِيعِ .

حِينِهَا هَاجَت وماجت الْأُمّ الَّتِى رَأَت ابْنَتِهَا ، جُثَّة هَامِدَة بَعْدَ سَمَاعِ الْخَبَرِ المصيرى ، وَتَعَالَتْ أَصْوَاتُ الْحَارَّة ، واذداد لَغَط الْأَسْمَاع بَيْن الطيارات والقنابل والغارات ، وهرع الْجَمِيع
للاختباء وَمَات الْبَعْضُ مِنْهُمْ ، حَتَّى تَجَلَّى الشَّيْخ ” مُيَسَّرٌ ” يَنْظُر فَتًى القَرْنِ العِشْرِينَ ، يَقُول بِكَلِمَاتِه الْأَخِيرَة :
رَحَلْت الفَتَاة وَمَاتَت الْأُمّ ، مِنْ الْآنَ لَن تُسْمَع الْأَصْوَات أَيُّهَا الْفَتَى .

لَم تَحِنّ اللَّحَظَات إلَّا وَأَنْهَارٌ الْفَتَى زاعقا :
مَاذَا تَقُولُونَ ؟ ! وَمَا أَسْمَع قَد قِرَاءَتِه فِى قِصَّةِ الأمْس وَالْمَاضِي الْعَمِيق ، مَاتَت الفَتَاة الْمَرِيضَة وَالْأُمّ قَتَلْت
فِى غَارَة ، وَرِجَالٌ الْحَارَّة مَاتُوا شُهَدَاء ، هَلْ أَنْتُمْ تتحدثون ؟ ! عَنْ الْحَاضِرِ أَم التَّارِيخ .

تَنَبَّه الشيخ” مُيَسَّرٌ ” قَائِلًا بانْفِعال :

وَأَنْت الَّذِى جَلَبْت الْمَاضِي يافتى .

كَأَنَّك تعايشت مَعَه ، لِشِدَّة الولع بِكِتَابٍ مِنْ الصَّعْبِ ذَكَرَه ، يَعُود الماضى الْعَتِيق .

بَكَى الْفَتَى وَقَدْ أَبَاحَ :

لَيْتَنِى مَا أَخْبَرَت الْجَمِيع ، وَكُنْت أُؤنِس . مَرَضِهَا بِدَقَائِق الْعُمْر
الْأَخِيرَة ، إنَّمَا كُنْت اعْتَقَدَ أَنَّ الماضى خَوَارِق الْحَاضِر بِالْحِلْم
الْمُمِيت ، تُوَاصِل مَا خَفَى بِالْوَاقِع .

أَشَار الشيخ” مُيَسَّرٌ ” وَهُوَ يَنْظُرُ
لرف مُمْتَلِئ بِالْكُتُب الْعَتِيقَة السَّوْدَاء ، قَائِلًا بَلَغَه أَمَرَه :

لَوْ كُنْت مَكَانَك لتخلصت مِنْهُم فَوْرًا .

رَحَل الْجَمِيع ، وَسَارَت الرُّفُوف خَالِيَةٌ .

Avatar

صحيفة نحو الشروق

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

Related Posts

أنفاس النبوءة

سألتُكِ: أينَ تُخفينَ النبوءَةَ الـتيشقّتِ الحُبَّ في رأسي، وفي صدري؟قُلتِ: بلقيسُ ما زالتْ تُجَرّبنيولا تَخونُ قلبًا ما زالَ في السَّرِّما عندكِ هدهدٌ يروي الحكايةَ لي،لكنَّ ما في دمائكِ الآنَ من…

الكتابة مرآة الذاكرة الذاكرة والكتابة للكاتبة ملفينا ابومراد

الكتابة مرآة الذاكرة… بين الفهم والتفهيم الذاكرة والكتابة الذاكرة هي المحور، والكتابة هي الحوار. فكيف تكون الكتابة حوارًا؟الحروف التي تتكوّن منها كلماتنا، تثير الذاكرة، فتذودنا بما نريد كتابته. وكأنّ كل…

اترك تعليقاً