
سيماء رمي العِقال والشماغ في الثقافة العربية القَبَلية:
للعقال وغطاء الرأس سواء كان شماغاً (يشمراً) أحمراً أو غترة بيضاء أهمية كبيرة في الثقافة العربية والموروث الشعبي العربي لأن اليشمر والعقال يحتلان مكاناً يعبر عن عنفوان العربي وشخصيته الاعتبارية وهو الرأس الذي لا ينحني ولو معنوياً حتى ولو كلف العربي حياته، فمن هذا المنطلق أخذ العقال و(اليشمر) علامات دلالية وإشارات بالغة الأهمية في سيمياء الألبسة الشعبية تبلورت بمرور الزمن حتى اعتُمدت كقواعد ورموز تُفَكّ شيفراتها بمجرد القيام بها حسب الموقف دون الإفصاح عن مدلولها بالكلام.
فإذا اعتبرنا رمي العقال والشماغ (التفرِّع) في علم السيميولوجيا علامة فهذا يعني أن هذه العلامة تتكون من دال ومدلول، فالدال هو نزع الشماغ والعقال والطاقية، والمدلول هو أمر جلل يفهم من خلال هيئة الشخص الذي فرّع وملامح وجهه وطريقة دخوله على الشخص الذي قرر أن يفرّع بين يديه، فرمي الشماغ والعقال ليس مجرد حركة عفوية بل يحمل دلالات مختلفة كالغضب أو الاستياء أو التحدي أو الاستعداد للمواجهة، وفي أحيان كثيرة يعبر عن فقدان الأمل وعدم الرضا والرفض والتمرد، ولا تقف علامة رمي العقال عند هذا الحد بل تتعدى إلى التحرر من القيود والإقدام على أمر قد يكلف الشخص الكثير.
ومن الدلالات التي يعبر عنها رمي العقال أيضاً طلب الدَّخل، ورد الاعتبار بعد الإهانة، والحاجة المادية، وتكاثر الدين…إلخ.
ويحدث هذا الموقف عند ما يلجأ شخص إلى عصبته أو خمسته أو أي رجل به (هكوة) كما يقال.
ويحدث أيضا أن تجتمع القبيلة في نصف ساعة عندما يرمي أحدهم شماغه وعقاله.
وقد وظف الكثير من شعراء النبط هذه العادة في سياقاتهم الشعرية كالشاعر فهد بن فضلان حين قال:
لابتي تكفون مابه غيبة
احتمى الموقف وهذي غترتي وعكالي
وقال آخر:
عزّي يا مال المعزة والغتر محذوفة
والحماس يطير الغترة مع الطاقية
ولا يتوقف الأمر عند رمي الرجل فقط لعقاله وشماغه، بل تقوم النساء أيضاً بذلك، فعندما تفرّع المرأة لأمر ما يتحول الرجال لقذائف وحمم يرمون بأنفسهم في التهلكة لنصرة تلك المرأة.
وقد شهدت واقعة قامت من خلالها امرأة بنزع شطفتها؛(عصابة من الهبري) ورميها على شخص طالبة منه الاستجابة لقبول الصلح مع ابن عمه حين عقد مجلس الصلح في بيت ابن تلك المرأة، وقد تم الصلح بمعية رمي المرأة لعصابتها في نفس الجلسة.
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل قد تعبر علامة رمي العقال و(التفرِّع) عموماً إلى الإعجاب والحماس وفي بعض المواقف تعبر عن الطرب والانفعال لدى سماع قصيدة حماسية أو بيت نايل أو بيت عتابة تمس قلب سامعها وتعبر عن مكنونات وجدانه، وقد شهدت مواقف كثيرة لرمي العقال والشماغ أكثرها في حلقات (الدّحة) التي ترافقها شيلات الهوسة والحندة.
وقد عبر عن ذلك الشاعر تركي الميزاني عندما قال:
وا وجودي لو اشوفك يابعد خلاني
والله اني لاحذف الغترة مع الطاكية
- عند من يرمى الشماغ والعقال؟
من خلال تحليل التركيبية السيسيولوجية للمجتمع القبلي القديم نجد أن هذا المجتمع ينقسم إلى طبقات عديدة وسلطات مختلفة، ففي المجتمع القبلي هناك سلطة تشريعية تقوم على شد المضابط وتحديث القانون العشائري حسب مقتضى الحال، وهناك سلطة قضائية تحكم وفق هذه المضابط ومن ورائها العرف والعادة، ويرافق ذلك سلطة تنفيذية تتمثل بالوجهاء الذين يلعبون دور الكفلاء الذين ينفذون قررارات وفروض القضاة، وهناك سلطة عسكرية أيضاً تتمثل في عقداء القوم الذين يتزعمون مجموعات الغزو والدفاع عن مضارب القبيلة، وتتزعم كل هذه السلطات سلطة أساسية وهي السلطة السياسية المتمثلة بشيوخ القبائل الذين يتحدثون رسيماً باسم القبيلة ويديرون شؤونها ويرسّموم حدود مضاربها، ويعينون مراعيها وموارد مياهها…إلخ، ولا بد من ذكر السلطة الروحية المتمثلة برجال الدين والمشايخ الذين يديرون جلسات الصلح وتتطيب الخواطر.
أمام كل هؤلاء الأشخاص الذين يمثلون تلك السلطات يُرمى العقال والشماغ والذي يعتقد الشخص الذي يفرّع أمامهم أنهم قادرون على تلبية طلبه سواء كان مادياً أو معنوياً، وفي سلوم العرب وعاداتهم لا يمكن لمن رُمي العقال أمامه إلا أن يلبي طلب هذا الرامي، ويهبهب ريحه، وينتصر له، فيقوم بإعادة شماغه وعقاله على رأسه ويقبله ويقول له (ابشر بعزك وأنا أخو فلانة)، (مكظية بعون الله)، ومن لا ينتصر لهذا الدخيل ويلبي طلبه يلحقه العار والشنار وتسقط منه الشخصية الاعتبارية التي قوامها إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وكل قيم الرجولة المعتمدة في منظومة القبيلة.