أشتاق للعودة……..للكاتب وثيق القاضي

سئمتُ من تَقدمي في العُمر، وكلما زادت أيامي تزيدُ ألآمي وكلما كبِرتُ عامٍ كَـبُرَت آهاتي، آهٍ لو بإستطاعتي أن أعودُ بي إلى تلك الأيام البيضاء كفُستان عروس، إلى تلك اللحظات التي تسيلُ منها السعادة لما توانيتُ لِوهلة ، أعترفُ أنني أصبحتُ عجوزاً، علامات الشيب غزت غابة رأسي ، وخيوط العنكبوب أتخذت من وجهي موطن لها ، الصدأ سَكن زوايا وغُرف قَلبي ، أصبحتُ حديث الفاتنات والراعيات والأطفال في حارتي وشوارع مدينتي يا مدينتي.!

كُل الذين أصادفهم يرجموني بالنبرات كما تُرجمُ الزانية وكما يُرجم الزاني ، يصرخون ويقولون : ولماذا تغيرت ملامحك وأصبحتَ كهلاً ؟ثم يبدو بأنك مُجرمٍ ساذج، أو ربما سرقت الخُبز من أفواه الفُقراء والمجانين فأصابتك لعناتهم، أو ربما أحببتَ الرقص والموسيقى والأغاني وأحببتَ فتاة من نور وضياء وقصائد، إن ما ذكرته قليلاً من القذائف يا سلوى، أحتاجُ سنين ضوئية كي اُحدثكِ عن كل شيء، عن كُلِ قذيفة تُطلق من ماصورة أنفية فتحط رحالها في جسدي فتحرقني وتؤلمني وتشتتني ، وتجعلني ألعنُ الشياطين الذين يمتلكون قلوبٍ خاوية من الإنسانية والحُب والضمير .

هأنذا أرفعُ يديّ البريئتين نحو خالقي، أدعو ثم أتنهد من قاعِ قلبي ،أبكي فتبللني الأمطار الهاطلة من سُحب عيني، أودُ أن أعودُ بي وأريدُ منه أن يعودُ بي إلى سنوات الطفولة، إلى ذلك الزمن الذي كنتُ أرتدي بنطلونٍ مُخزقٍ من خَلفي .! أودُ أن أعودُ إلى زمنٍ أبيض مليء بالبراءة والصداقة الصادقة والضحكات الصافية كسماءٍ زرقاء وكضحكة طفلة في المهد يا سلوى، أريدُ العودة إلى أيامٍ كنتُ أصحو باكراً أهرعُ لرعي الأغنام ، أفركُ جسد الماشية بالمشط، أنتزع من ظهرها الحشرات وأقتلهم دفعة واحدة ثم أصرخُ صرخة فرائحية عندما أرى رأس الماعز يهتز ويشكُرني.

أشتقتُ للحظاتي الماضية، لذكرياتي السابقة حيثُ كنتُ أصنعُ من بقايا الخِرق الرثة والمُشططة كُرة ممتلئة بالتعجرفات ، أصطحبها إلى الساحة المفتوحة وهُناك أمارسُ لعبتي مع أصدقائي ، نركلها بأقدامنا الطاهرة نحو المرمى، نصول ونجول كالفُرسان ، نؤدي الطواف بالساحة كما يؤدي الحاج فريضته في بيت الله العَتيق يا كَعبتي وقِبلتي .!

أشتاقُ لٍأيامٍ ماطرة، إلى الصباحات العَذبة واُغنيات العصافير والنسمات الباردة وهـديل الحمام ، حيثُ كنتُ أحملُ دفاتري وسط شنطة مصنوعة من أكياس الدقيق والأُرز، في رَحمها قارورة شاي وفطيرة خُبز وأقلام غزيرة بالمداد لا بالدم .! ، أتوجه نحو المدرسة حافي القدمين ، وجهي أغبر كمنزلٍ ضاجعه صاروخ حَرب ، أصلُ الطابور الصباحي وهُناك أرتلُ الله ثم الوطن ثم الثورة، كانت ثورة واحدة نتمنى لها الحياة ولكارهها الممات، أما اللحظة لا أدري كم لدينا ثورات وكم لدينا نثرات ، بُتُ لا أدري ما هي الثورة التي يتمنأؤن لها الحياة في الطابور الصباحي حالياً.!

آه يا سلوى كانت أيام فرائحية، ليتها تعود، ليتها تعود وسأدفعُ ثمن عودتها جزءً من نبضات قَلبي، إن هذا الزمن ساذج وقبيح، مليء بالعار والرماد والتُراب، بالأسى والعزاءات، بالدموع والمنغصات، بالوجع والجوع ، بالمقابر والمنابر، بالعُشش والمُخيمات والفَقر والمساجد ، بالتكفير واللا تفكير، بالوداع لا الحياة ، بالكُره لا بالحُب.

أريدُ أن أعودُ لسنوات الطفولة، إلى أيام كان الجميع جواري ، كل أصدقائي في جانبي، هذا العُمر الذي وصلتُ إليه يفزعني، يؤلمني، يرعبني، يشتتني، ومن الخارطة والوجود يمحيني، يجعلني شاردا أفكرُ وأقول : أين أصدقائي ، أين الغائبين ولماذا رحلوا من جواري، أين أختفت وجوههم ، ولماذا أنطفت ضحكاتهم كما تنطفيء القناديل والشموع ، أين الوطن الذي كنتُ أصدحُ به في الطابور وأين الثورة التي شحبتُ وأنا أرددها وهل الله الذي أؤمن به هو نفسه الذي يعبده رَجل الدين المُلطخ وجهه بالسيئات والخطايا ومَن يشربُ مِن دماءِ الأبرياء ويقتاتُ من أشلاء الأطفال والفراشات يا سلوى …

  • Avatar

    صحيفة نحو الشروق

    صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

    Related Posts

    الفتاة االصغيرة سارة قصة بقلم علي بدر سليمان الجزء الاول.

    الفتاة الصغيرة سارةبقلمي علي بدر سليمان يعلو صوت القصف وأصوات القذائف على كل شيء ويأخذ الناس بالصراخ والضجيج.ويبدؤون بمغادرة منازلهم وسط حالة من الذعروالخوف.وكل منهم يحاول أن يأخذ أقل مايملكمن…

    A unique love story by/ Abdu Morkos Abd El Malak

    A unique love story by/ Abdu Morkos Abd El Malak My love story is a unique one. It is more romantic, dramatic, and fantastic than any of those stories; we…

    اترك تعليقاً

    مختصرات

    إحتفالا باليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة

    • مايو 4, 2025
    • 55 views
    إحتفالا باليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة

    احتفاءًا باليوم العالمي لحرية الصحافة

    • مايو 3, 2025
    • 36 views
    احتفاءًا باليوم العالمي لحرية الصحافة

    مركز التدريب والتأهيل العالمي GTC بوابتك نحو النجاح المهني

    • مايو 1, 2025
    • 48 views
    مركز التدريب والتأهيل العالمي GTC بوابتك نحو النجاح المهني

    المخرج محمد خميس يشجع على حضور مهرجان مالمو للسينما العربية

    • أبريل 27, 2025
    • 17 views
    المخرج محمد خميس يشجع على حضور مهرجان مالمو للسينما العربية

    نقابة الفنانين في سورية تكرّم فضل شاكر و تكشف سر منحه العضوية

    • أبريل 26, 2025
    • 24 views
    نقابة الفنانين في سورية تكرّم فضل شاكر و تكشف سر منحه العضوية

    الطبعة الثامنة والثلاثين من تظاهرة “منتدى الكتاب”، وتزامنًا مع شهر التراث (18 أفريل _ 18 ماي)

    • أبريل 24, 2025
    • 23 views
    الطبعة الثامنة والثلاثين من تظاهرة “منتدى الكتاب”، وتزامنًا مع شهر التراث (18 أفريل _ 18 ماي)