عُيُون تَرَى نَظَرْتُهَا بِقَلَم الأديبة عَبِير صَفْوَت

 

أَنِينٌ مِن النُّواح ، يَسْرُد آهات الْقُلُوب الْأَخِيرَة ، وَعُيُون تَرَى
نَظَرْتُهَا ، جَسَدًا لَن يَنْبِض حَرَاك ، أَو يُنْفِس بِنْت شَفَاه أَبَدًا .

اِهْتَزَّ لَهَا وَجْهًا ، شفقتا فِى قَلْب أَم ، وَارْتَعَشَت شَفَاه ، تَلْتَحِف
بِدُمُوع مأقى الْعُيُون ، وَأَرْشِد الظَّنّ القَلَق عُنْوَانًا ، لبراح صَدْرًا تلفح الْأَلَم اشوكا ، لِلْأُمّ الَّتِى كَانَتْ تنحنى ، عَلَى فِلْذَة
كَبِدِهَا الْوَحِيد “مصطفى” تنهنه بِحَرْقِه ، يَنْتَفِض جَذَعَهَا ,
ونشيج يلتوى ظَهْرِهَا ، وَأَبَاحَت كَلِمَات مَنْطُوقِه ، كاقطرات
تستخلص مِن مَعْصُور ، حَدّ الْفَتْك ، قَائِلُه بوهج ، مصعوقة
تُثْمِر ، مِنْ بَدَنِ الزُّعْر بُهْتَانٌ ، وَعُيُون تَوَرَّمَت مِنْ الْعِصْيَانِ ،
وصرخت ، شَقّ صراخها الْجُدْرَان : هَلْ مَاتَ مُصْطَفَى ؟ !
هَلْ مَاتَ مُصْطَفَى ؟!

وَكَان يَرْكُد بِسَلَام ، ثَابِت فَضْفَاض ، لِوَجْه الْأَبْيَض الرَّيَّان ،
وتجمدت الْأُمّ ، مصلوبة ، تَعَارَك الشَّيْطَان وَالْأَزْمَان ، بِنَار
مُوقَدَة تُصَلَّى بِالدِّمَاء ، وَجَسَدًا رَخْو ، وهواجس بِهَا ، تَطِيب
النُّفُوس بالاطمئنان ، تتساءل :

حَىّ هُو ؟ ! وَسَاء بِى الظَّنّ قَبْلَ الْأَوَانِ ، اقْتَرَبَت خُطُوَات ،
وَنَظَرْت بِحَنَان ، وَرَأَت ضحكتا جَمِيلَة الْمَحْيَا ، تَطُل مِنْ السَّمَاءِ ، وَعَيْنَان هَادِئة ، تَحَوُّط الْأُمّ ، قَائِلُه :
أمى ، أَنَا هُنَا بِأَمَان .

وتصدى لَهَا الْفِكْر ، ولخضوعها خَان ، وابتلعت الْحُزْن ، وَجَلِيدا
اِرْتَسَم ، لَا نَجَاةَ الْيَوْم ، تَفَرَّقَت الْأُمّ نِتْرات وَتَلاَشَت ، حَتَّى
أَصْبَحْت ، بِجِوَار الغالى ضَئِيلَة ، لجسدا ، لَن يَحْيَى الْأَمْوَات ، وتنادت بِاسْمِه ، لَعَلَّه بِغَيْبَة ، يَنَام :

مُصْطَفَى ، مَا بِك يَا مُصْطَفَى ؟ ! هَل تَسْمَعُنِي يامصطفى ؟ !
قُلْ لَهُمْ إِنَّك نَائِمٌ ، فِى فِرَاشِك النَّظِيف المعطر ، وَفِى غرفتك
الْمَرْتَبَة ، يامصطفى . ناورتة الْأُمّ ببسمة ، كَأنَ الَّذِى أَمَامَهَا ،
حَيًّا بِلَا مَمَاتٌ ، وَأَمْسَكْت مَنْكِبِه بِرِفْق :

لِمَاذَا لَا تبتسم ؟ ! كعادتك ، يامصطفى ، لِمَاذَا أَنْت تَبْخَل بِحَال
أُمُّك .

لاَمَسَت بكفوفها وجنات الفَقيد : هاهى كفوفى الدافئة يابنى ، وهاهى انفاسي الْحَارَّة ، تلفح وَجْهَك بِالسَّلَام وَالطُّمَأْنِينَة ،
وَأَنْت لَمْ تَتَعَلَّمْ مَعْنَى السَّلَامُ يامصطفى ، لَمْ تَتَعَلَّمْ مَعْنَى
الصَّحِيح يابنى ، لَم يَغْلِبُك الشَّيْطَان ، ياعزيزى ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُ لَك عَنْهُ ، وَلَم تتعاون مَعَه بِخَاطِرِك ، لِأَنَّك يابنى ، رَأَيْت أَبِيك
يحالف الشَّيْطَان ، وَلَمْ تَنْحَصِرْ دُمُوعُه بَيْن الْعِتَاب وَالنَّدَم ،
رَأَيْت قدوتك الْحَسَنَة ، سَبِيلَهَا السُّقُوط يامصطفى ، أَبَدًا لَمْ
تَكُنْ مُذْنِب ، أَبَدًا لَمْ تَكُنْ يَوْمًا مِنْ الْخَاطِئِين ،
كَيْف لِمَنْ لَا يَعْلَمُ ؟ ! يُحَاسِبُ عَلَى الأَخْطَاء ، كَيْف الحال
بِالْبَرَاءَة ، يَتَنَاوَلُه الشَّقَاء ، هَل تَسْمَعُنِي يامصطفى ؟ ! إنَّمَا الْآن ، عَلَيْكَ أَنْ تَسْمَعَ ، عِلْمُك أَبِيك السُّوء ، وَهُوَ لَا ينظرك بِقَلْبِه ،
وَرَأَيْت الْفَوَاحِش يابنى ، وعيناك الَبريئة ، تَبَرَّأَت ، وتاه الْعَقْل
الصَّغِير يامصطفى ، اذْهَب
لِلْحَقّ يابنى ، وَاتْرُك الضَّلَال ، أَتْرُك وَالِدِك الَّذِى يَحْتَضِر ، بَعْد
أَنْ صفعتة الْأَيَّام فِيك ياعيونى ، وَاتْرُك أُمَّكَ الَّتِى انْتَزَع
الْوَجَع وَالْفِرَاق فَرْحَتِهَا ، وَاتْرُك الْعَالِم الَّذِى ، لَن يَرْحَم الصِّغَار .

أَرْحَل يامصطفى ، فِى جلبابك الوردى ،وباقدامك النَّاعِمَة
الصَّغِيرَة ، عَانَق الْوُجُود ببسمة طَيِّبَة ، لثغر ملائكى ، يَتَطَيَّب
بِالعِطْر الْأَبْيَض ، مَعْصُومٍ مِنْ الدُّنْيَا ، وممنون فِى
عَالِمَ الْحَقّ ، أَرْحَل يامصطفى ، أَرْحَل يابنى ، لَقَد ظَلَمْت كَثِيرًا ، وَبَكَيْت كَثِيرًا ، عِنْدَمَا كَانَت ضلوعك الصَّغِيرَة ، تلتف بِهَا
ضلوعى ، كَم رَجَوْت تتساءل عَنْ مَعْنَى الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ
وَالسَّيِّئَةَ ، مُصْطَفَى عَلَيْكَ أَنْ تتسامح بامك المكبلة باصفادا
مِنْ الْأَعْرَافِ يامصطفى ، رَحَلْت يامصطفى ، ورحلت مَعَك
التَّضْحِيَة وَالْحَبّ وَالِانْتِظَار .

وهمست الْأُمّ بِإِذْنِه : مَاذَا سأنتظر يابنى ،مَاذَا بَعْدَك يَكُون ،
وَلِمَن ؟ ! مُصْطَفَى ، مُصْطَفَى ، أُبْنَى وَابْن الْبَرَاءَة وَالسَّمَاحَة
وَوَلِيد الظُّرُوف السَّيِّئَة ، اسْتَوْدَعَك اللَّه يابنى ، ياقرة الْعَيْن ،
عِنَايَة مِنْه بِك ، عِنَايَة مِنْه بِك ، إلَى الْأَبَدِيَّة يابنى ، فِى أَيَادَى
الرَّحْمَن .

Avatar

صحيفة نحو الشروق

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

Related Posts

نحو المسيرة الإعلامية متعب الشبلاوي

المقدمة:قصتك مع الإعلام والسوشيال ميديا.لماذا اخترت هذا المجال كهواية وشغف.الفصل الأول: البداية والإلهامأول تجربة لك في الإعلام أو مواقع التواصل.الأشخاص أو الأحداث التي ألهمتك.الصعوبات الأولى وكيف تغلبت عليها.الفصل الثاني: تعلم…

سلو االفؤاد للشاعرة السورية غنوة حمزة

سَلوا الفؤادَ سلوا الفؤادَ بلطفٍ عن مواجعِنالايُجدي للجرحِ بعدَ النزفِ تطبيبُ في بحرِ عشقٍ هوَت للقاعِ قافيتيوالشيبُ في إلهامٍ لايجديهِ تخضيبُ أغفو وأصحو على ذِكرى تعذّبُنيقد شابَ قَلبي وبعضُ الشّوقِ…

اترك تعليقاً