( تياهر ) / قصّة : بقلم فادي زهران

#فادي_زهران
✍ فادي زهران
( تياهر ) / قصّة :
” … إذا قرّرت أن تزورنا إحرص على سلامة أغلى ما تملك ! ” ، هذه العبارة الّتي سمعها فادي و لم يفهمها ، لكن مع مرور الوقت تغيّر كل شيء ، فما الّذي حدث يا ترى ؟!
لنقرأ سويّاً :
فادي معلّم للمرحلة الإبتدائية ، يعشق التّدريس و يمارسه بكل حب و اتقان ، هو في الثّلاثينات من عمره ، متزوّج و لديه ابنة واحدة في السّادسة من عمرها ، يحبّ زوجته جداً ، و لطالما كان نعم الزّوج المخلص ، يعيش في إحدى المناطق المزدحمة بالسّكان ، في بداية تعيينه تنقّل بين عدّة مدارس في أكثر من منطقة بعيدة ، حتى استقرّ به الحال في مدرسة قديمة جداً تبعد نصف ساعة عن مكان سكنه ، كان كلّ شيء فيها عتيقاً ، و استطاع فادي أن يصنع علاقات طيّبة مع زملائه في المدرسة في فترة قصيرة ، المدير يحبّه جداً ، و يرى فيه مثال المعلّم المتميّز ، و مع ذلك كان هناك أحد المعلّمين يتحدّث معه بأسلوب جاف ، ولا يحبّ الجلوس مع بقيّة المعلّمين إذا كان فادي جالساً معهم ، لم يكن فادي يعلم سبب ذلك ، و لطالما حاول أن يتودّد اليه لكن دون فائدة . في أحد الأيام بينما فادي وحده في غرفة المعلّمين يحضّر لدروسه التي سيدرّسها لطلبته و كان مشغولاً جداً بالكتابة ، و لم يرفع رأسه ، إذا به يشعر بأحد يمسك بساقه من تحت الطّاولة بقبضة قويّة تألّم فادي منها لكن دون أن يصدر صوتاً ، نظر فادي بعدها إلى مكان قدميه فلم يجد شيء ، ظنّ نفسه يتخيّل ، مع أنّه متأكّد من أن شيئاً ما قد أمسك به ، كشف عن ساقه فوجد كدمة زرقاء حولها مع ألم شديد ، حاول تناسي الحدث الغريب ، كتم الألم ، و لم يدقّق كثيراً ، قُرِعَ جرسُ نهاية الحصّة الماضية و كانت لغة إنجليزية ، و قام بعدها فادي قاصداً الغرفة الدّراسيّة ، حيث صفّه في الطّابق الثالث ، و لطالما أخبرهم بضرورة تغيير مكان الصّف و تقريبه لبعده و انزوائه عن بقيّة الصّفوف ، أخبروه أنّه لا يوجد غرف فارغة و مكان الصّف الأصلي السّابق الموجود في الطّابق الأول قد أغلق بعد انهيار جزء من السّقف ، و سيتم صيانته في وقت لاحق ، و بينما فادي صاعد الأدراج متوجّهاً إلى الصّف ، حيث كانت هناك بعض الممرّات المعتمة بعد تعطّل أحد المصابيح ، شعر بشيء ملمسه خفيف لكنّه ساخن جداً و كان كالرّيشة يلمس وجهه لكنّه لم ير أحد ، إعتقد فادي أنّها نسمة هواء عابرة ، و تابع إلى الصّف ، قام بكتابة العديد من اللّوحات بالاتفاق مع الطّلبة ، فهو يحبّ إشراكهم في أساسيّات التّعامل بينهم في الغرفة الصّفيّة ، و يركّز على ضرورة إشعارهم بحسّ المسؤوليّة مهما كانت أعمارهم صغيرة ، و كان الطّلّاب يحبّونه جداً ، و لطالما حاول التّنويع في أساليب التّدريس ، جاء وقت الاستراحة ، و انطلق الأطفال إلى الباحة ، تأخّر فادي قليلاً في الغرفة الصّفيّة ، و بينما هو يجمع أدواته من أقلام و كتب و ممحاة ، و يمسح السّبورة ، سمع صوتاً طفولياً باكياً يقول : ” لم يسمح لي والدي بالدّراسة ، و لن يكن طلابك أفضل منّي ! ” ، التفت فلم يجد أحد ، فالغرفة فارغة تماماً ، استغرب مجدّداً ، تفاقم رعبه ، و خرج فوراً إلى غرفة المعلّمين ، و حاول أن يُشغل نفسه مع المعلّمين حتى يتناسى ما سمعه ، فتح نقاشاً عن ضرورة التّنويع في أساليب التّدريس ، و كان الأستاذ الّذي يكره فادي موجوداً ، قال أحد المعلّمين : ” أسلوب التّلقين ممل جداً ، و علينا تغييره حتى نلفت انتباه الطّلبة ” ، و قال آخر : ” أسلوب اللّعب هو الأفضل ” ، قال فادي : ” علينا أن نعلم طرق التّدريس الّتي يفضّلها كل طالب ” ، ليردّ المعلّم الذي يبغض فادي بسخرية : ” و هل علينا أن نسأل كل طالب عن الطّريقة الّتي يفضّلها يا أستاذ فادي ؟ أتعلم ، أفكّر باستدعاء الطّلبة و عمل اجتماع لكي تحدّثهم بما تريد ، ما رأيك أن أجمع لك جميع الطلّبة في السّاحة حتى تسألهم بنفسك ؟! ” ، ضحك البعض ، بعدها ساد صمت ، و فضّل فادي الانسحاب من النّقاش ، انتهى اليوم الدّراسي ، و خرج التّلاميذ من الصّفوف ، و بقي فادي آخر شخص في الطّابق الثّالث حيث كان مناوباً في ذلك اليوم ، و قبل أن يغادر فادي الطّابق أراد التأكّد من خلو الصّفوف من الطّلبة ، دار الصّفوف ، كانت خالية تماماً من الطّلبة ، اتّجه نحو الأدراج ، و فجأة انطفأت الأضواء ، و بالكاد استطاع فادي أن يرى شيئا ، عندها شعر بوخزة دبوس تصيب أذنه من الخلف ، وضع يده على أذنه ، أحسّ بشيء ينزف على أصابعه ، فتح مصباح هاتفه كي يستهدي به ، فوجد الدّم على أصابعه ، ذُعر فادي ، فلا شيء يفسّر سبب ذلك ، فمن غير الممكن وجود نحل في هذا الممر ، وضع منديلاً مكان الجرح ، نزل الأدراج بسرعة ، أخذ أدواته و خرج من الباب ، كانت السّاحة فارغة ، سار فادي بضع خطوات ، و قبل أن يصل إلى الباب الرئيسي للمدرسة ، سمع نفس الصّوت الباكي ، التفت مجدّداً فلم يجد أحداً ، عندها ركض نحو الباب الرئيسي و تابع إلى بيته سائراً على أقدامه ، بينما هو يمشي و يفكّر فيما حدث معه ، أخرج حفنة مكسّرات من جيبه ، و أراد تناول حبة فستق ، و ما أن مدّ يده نحو فمه ، نظر إلى أصابعه فشاهد ثقباً غريباً أخضر اللّون على ابهامه الّذي يسيل دماً ، ازدادت حيرته ، فالثّقب برغم صغره لكنّه يبدو عميق جداً ، و الغريب أنّ فادي لم يشعر بأيّ ألم من قبل ، فكّر أنّه ربّما تكون الدّماء قد أتت عندما وضع يده على أذنه الّتي جرحت ، و ظنّ أيضاً أنّّ اللّون الأخضر جاء من أقلام الألوان التي استخدمها عند كتابة لوحة آداب الصّف .
وصل إلى البيت ، استقبلته زوجته بكل حب و ترحاب ، لكنّها انتبهت إلى وجهه المصدوم ، ركضت ابنته نحوه لكي تعانقه ، عانقها مسرعاً ، وجهه جامد كأنّه قالب جليدي ، سارع إلى غسل يديه ، فركهما جيّداً بالصّابون ، مسحهما ، لكن الثّقب الأخضر ما زال موجوداً ، حاول تناسي الأمر ، و وعد نفسه أن ينسى كل الأشياء الغريبة الّتي حدثت معه في المدرسة ، تصنّع الإبتسامة على وجهه ، ذهب إلى المطبخ حتى يمازح زوجته و يسألها عن طبق اليوم محاولاً تلطيف الأجواء ، كانت زوجته قد شعرت بوجود ما يقلقه ، سألته مراراً و تكراراً ، لكنّ جوابه كان نفسه : ” لا شيء يا زوجتي الغالية ، إنّه مجرد تعب من العمل ” ، بعد أن تناول غداءه و أخذ يشرب الشّاي تذكّر المواقف الّتي حدثت معه ، من الإمساك بساقه حتى الشيء السّاخن الّذي لمس وجهه ، وصولاً بالعبارة التي سمعها من إحدى الأصوات الباكية ، و انتهاءً بالثّقب الأخضر على إبهامه ، بينما زوجته منشغلة في تدريس ابنتهما في الغرفة الثانية رفع فادي عن ساقه لكي يرى الكدمة الزّرقاء حولها ، و فجأة جاءت زوجته ، فقام فوراً بتغطية الكدمة ، لمحت ساقه لكنّها لم تعلّق منتظرة أن يخبرها من تلقاء نفسه ، لكنّه استمر بقول : ” إنّه التّعب يا رجاء ، صدّقيني يا زوجتي العزيزة ” ، أتت ابنته تريد أن تريه جمال رسمتها ، أمسك فادي الدّفتر ، أعجب جداً برسمتها و قال : ” أحسنتِ يا لينا ، رسمتكِ رائعة يا ابنتي الغالية ” ، عندها انتبهت زوجته للثّقب الأخضر على إبهامه ، لم تعد تحتمل إنكار فادي ، و بعدما طلبت من لينا إكمال واجباتها في الغرفة الأخرى ، أصرّت أن يخبرها فادي بما جرى معه في اليوم الدّراسي ، اضطرّ فادي إلى إخبارها بكل شيء ، عندها صُدمت رجاء ، امتلأ قلبها بالرّعب الشّديد ، و بعدما رأت الكدمة الزّرقاء حول ساقه أصابها الهلع قائلة : ” ما هذا يا فادي ؟! ، من أين جاءت هذه الكدمة ؟! ” ، قال فادي : ” هدئي من روعك ، لا شيء مهم ” ، مع ضحكة محاولاً تغيير الأجواء ، مضى ذلك اليوم و لم يستطع فادي أن يفكّر في أيّ شيء غير حوادثه الغريبة . في اليوم التّالي استيقظت رجاء فلم تجد فادي ، ذهبت إلى غرفة الجلوس فوجدت فادي يكاد يُسقِط فنجان القهوة من يده و السواد أسفل عينيه حيث كان نائماً ، ركضت و تناولت الفنجان و وضعته جانباً ، أيقظت فادي ، استيقظ بصعوبة ، كانت عيناه حمراوتين ، أخبرها أنّه لم يستطع النّوم طوال اللّيل ، و استمر في إعداد القهوة و شُرْبها ، محاولاً إيجاد أيّ سبب لما حدث معه في المدرسة ، لكن برغم ذلك باغته النّوم قبل ساعتين من الآن ! ، شعرت رجاء بالقلق على زوجها و انزعجت كثيرا لأنّه كان وحيداً يفكّر طوال السّاعات الماضية ، طمأنها فادي ، و قال لها : ” لا تقلقي يا زوجتي العزيزة ، هل لي بفنجان قهوة آخر تعدّينه لي ؟ ” ، قالت رجاء : ” لا يا فادي ، فأنا أخاف عليك من كميّات القهوة الكبيرة ، سأعدّ لك الفطور مع كأس من العصير لكي تستعيد نشاطك ، و يا حبّذا لو لا تذهب اليوم الى المدرسة ” ، سكت فادي ، تناول فطوره مسرعا ً ، شرع في تجهيز نفسه ، قالت رجاء : ” لِمَ لا ترتاح اليوم ، أُنظر إلى عينيك ، فقد أنهكما التّعب و السّهر ” ، أصرّ فادي على الذّهاب و قال : ” عليّ الذّهاب يا رجاء ، لا أريد أن أتأخّر في المنهاج ” ، و بعدها خرج فوراً من البيت مسرعاً . بينما فادي في غرفة المعلّمين وحيداً ينتظر انتهاء حصة اللّغة الانجليزيّة حيث كان شارد الذّهن ، عندها رأى أمامه طفلاً صغيراً يرتدي ملابس مُلوّثة بكثير من البقع ، و قبّعة سوداء ممزّقة ، و كان رثّ الهيئة ، وجهه باهت ، و عينيه صفراوتين واسعتين دون وجود بؤبؤ ، فم يخرج منه سائل أزرق مثل لون الحبر و أيدي صغيرة مليئة بالدّماء تمسح السّبورة الموجودة في غرفة المعلّمين ، كان الحبر يملأ الأرضيّة ، و السّبورة مفعمة ببقع حمراء على شكل كف طفل صغير ، اقترب الطفل أكثر فأكثر من فادي و بعدها حاول لمسه ، عندها صرخ فادي لكن لم يسمعه أحد ، و بعدها اختفى الطّفل ، انتفض فادي و قام من مقعده ، أصبح يدور في أرجاء الغرفة ، توقّف لحظة يفكّر بما رآه ، بعدها جاء وقت عودته إلى غرفته الصّفيّة ، انطلق فوراً ، لاحظ فادي اختفاء بعض أقلام الحبر الخاصّة به ، حتى أنّه سمع أن زملاءه فقدوا أيضاً أقلام الحبر ، قام بإعطاء تلاميذه حصة في اللغة العربيّة بعنوان الأفعال ، و قد تضمّنت الحصّة العديد من الأمثلة على الأفعال الثلاثة ، و منها : ” أكلَ الطّفلُ ، يأكلُ الطّفلُ ، كُلْ أيّها الطّفلْ ” ، و كان الطلاّب متفاعلين جداً مع فادي ، بعدها انطلق الأطفال إلى السّاحة لحصة الرّياضة ، بقي فادي في الصّف يراجع ملفات الطّلبة ، سمع صوت الطفل الباكي يقول : ” هل تخاف مني يا أستاذ فادي ؟ ” ، رفع فادي رأسه فوجد نفس الطّفل ، و قد غرقت عيناه في الدّموع ، عاد الخوف لقلب فادي خاصة بعدما دقّق في وجه الطفل الغريب ، لكنّه تماسك ربما حزناً على بكائه ، و قال له : ” مَنْ أنت يا صغيري ، و ما الّذي أتى بك إلى هنا ، و لماذا تلاحقني ؟! ” ، أجاب الطّفل : ” اسمي تياهر و هو بمعنى موج البحر الصّاخب ، و المتكبّر ، و التائه ، و لقد كنت طالباً في هذه المدرسة ، و هذا الصّف هو صفي ، سمعتكم تتحدّثون عن الأفعال يا أستاذ ، و كان هناك فعل أعجبني : أكلَ الطّفلُ ، يأكلُ الطّفلُ ، كُلْ أيّها الطّفلْ ، لكنّني لم آكل من فترة طويلة يا أستاذ ! ” ، و كانت الدّموع تنهمر بشدّة على وجنتيه الصّغيرتين ، حيث إن وجهه جاف جداً ، و الدّموع تغسله بصعوبة ، شعر فادي باختلاط المشاعر داخله ، حزن و ألم و خوف ، تشجّع فادي بعدها و قال : قل لي ما قصتك أيّها الطّفل الجميل ؟ ” ، ضحك الطّفلُ عندها و قال : ” أعلم أنّني لم أعد جميلاً ، لا تضحك عليّ ، مع أنّني كنت أكثر أطفال الحي أناقة و وسامة ، هكذا كانت أمي تقول لي ! ” ، ردّ فادي : ” و أين هي والدتك و والدك ؟ أخبِرني أي شيء عنك ؟ ” ، قال الطّفل : ” أخبرتك أن اسمي تياهر ، و أنا في الصف الثالث الابتدائي ، كنت أعيش في مدينة قريبة من هنا ، و انتقلت بعد احتراق مدرستنا إلى مدرستكم هذه ” ، قال فادي : ” و ممّ احترقت مدرستكم ؟ ” ، ردّ تياهر : ” قالوا إن ذلك حدث بسبب الكهرباء ، و لم نجد غير مدرستكم ألتحق بها حتى لا يضيع عليّ العام الدّراسيّ ” ، طُرِق بابُ الصّف فجأة ، فاختفى تياهر ، و استغرب فادي من إختفائه ، كان أحد المعلّمين الّذي طلب من فادي أن يأتي إلى السّاحة حتى يستمتعان بالجلوس تحت الشّمس ، اعتذر فادي مبرّراً ذلك بانشغاله في الملفات ، عندها غادر المعلّم و أغلق الباب ، ظهر تياهر مرة أخرى و تابع حديثه : ” أتعلم أنّني كنت طالباً مجتهداً في هذا الصّف ؟ ” ، قال فادي : ” و ماذا حدث لك بعدها ؟! لِمَ تركت الدّراسة ؟ ” ، ردّ تياهر : ” لم أتركها ، لكنّها هي من تركتني ” ، و تابع بكاءه ، قام فادي بتهدئته ، و قال : ” ما رأيك بأن تدلّني على بيتكم حتى أقابل والديك ؟ ” ، عندها ارتبك تياهر ، و شعر بالخوف الشّديد ، و اختفى فوراً ، زاد رعب فادي و ترك كل شيء و قرّر الخروج ، و قبل أن يصل إلى الباب سمع صوت تياهر يقول : أسكن في بيت صغير بجانب شجرة الخروب الكبيرة ، لكن إذا قرّرت أن تزورنا احرص على سلامة أغلى ما تملك ! ” ، استغرب فادي من ذلك الكلام ، شعر بأنّه مشوّش جداً ، و قال لنفسه : ” هل سمعتُ أحداً يتكلّم أم أنّني أتخيّل ؟ ربما كانت تهيؤات من قلّة النّوم ” ، و خرج من الصّف ، كان يسير في الممرّات ، سمع بعدها صوت تياهر يقول : ” لا ، لم تكن تهيؤات يا أستاذ فادي ! ” ، عندها جنّ جنون فادي ، و ركض كالمجنون ، و كان كالمغيّب ، متوجّهاً إلى السّاحة ، و قبل أن يصل صُدِم بأحدهم في الممر المظلم الأخير ، سقط على الأرض ، سمع صوتاً يقول : ” ما بك يا فادي ؟ هل أنت بخير ؟ ” ، نظر إلى الأعلى ، فوجد أحدهم يمدّ يده لكي يساعده ، أمسك فادي باليد و وقف ، و إذا به يرى المعلم الّذي يبغضه و كان اسمه نعمان ، ردّ فادي و قال بكل رسميّة : ” لا شيء يا أستاذ نعمان ، فقد تعثّرت برباط حذائي ” ، ردّ نعمان : ” ما بي أراك قلقاً يا فادي ؟! ” ، أجاب فادي : ” قلت لك لا شيء يا نعمان ” ، قال نعمان : ” حسناً لا تخبرني ، نسيت أنّك لا تحب الحديث معي ، سأتركك وحدك ” ، عندها ردّ فادي : ” تمهّل يا نعمان ، انتظر قليلاً ، حسناً سأخبرك بكل شيء ” ، استغرب نعمان من رد فادي فهو يعلم أنّ فادي لا يستلطفه ، قال فادي : ” سأقول لك كل شيء ، و لا أدري ما الّذي يدفعني لكي أخبرك أنت بالذّات ؟! ، ربّما لأنك أول من ظهر في وجهي الآن ” ، كان نعمان في انتباه شديد لكل كلمة تصدر من فادي ، تابع فادي بنبرة خائفة مندفعة : ” حدثت لي حوادث غريبة في هذه المدرسة ، و أنا قلق جداً ، أنظر إلى إبهامي ، أنظر إلى تلك الكدمة في ساقي ، أنظر إلى الجرح خلف أذني ! ” ، قال له نعمان : ” هدئ من روعك ، تعال لنتمشى في السّاحة ” ، أخبَره فادي بكل شيء ، ازدادت حيرة نعمان ، طيلة فترة الاستراحة كان نعمان يحاول تهدئة فادي ، اقترح نعمان على فادي ان يخبر المدير لكن فادي رفض مبرّراً ذلك بأنّ المدير لن يقتنع بكلامه ، و عندها سيفقد مصداقيته أمامه ، و ربّما ينقله من المدرسة أو يطرده ، أخبره نعمان أن المدير يحبّه و سيصدّقه ، لكن فادي أصرّ على الرّفض ، انتهى الدّوام الدّراسيّ ، قام نعمان بمرافقة فادي في الطّريق ، أخبره بأن يحاول نسيان كل شيء ، و أن يذهب إلى بيته لكي ينال قسطاً من الرّاحة و النّوم .
عاد فادي إلى بيته ، كان شارداً طوال الوقت ، عند تناول طعامه و شرابه ، و جلوسه أمام التّلفاز ، حتى عند التحدّث مع زوجته و ابنته ، سألته زوجته : ” هل حدث معك شيئاً اليوم ؟ ” ، لكنّه أجابها بأنّه لا يوجد شيئاً يذكر ، و أثناء نومه بعد العصر شاهد تياهر يعيد نفس الجملة : ” أسكن في بيت صغير بجانب شجرة الخروب الكبيرة ، لكن إذا قرّرت أن تزورنا إحرص على سلامة أغلى ما تملك ! ” ، مع ضحكة غريبة أطلقها ذلك الطّفل ، استيقظ بعدها فادي منزعجاً جداً ، كانت الساعة السابعة مساء ، فكّر فادي أن يخرج لكي يبحث عن ذلك البيت ، لكنّه تردّد قليلاً ، و قرّر أن يؤجّلها إلى الصّباح حتى يستغل اليوم من بدايته . في الصّباح الباكر استيقظ فادي ، كان دوامه عند الظهيرة ، و قرّر أن يذهب إلى البحث عن بيت تياهر ، فكّر أن يصطحب نعمان معه ، لكنّه فضّل الذّهاب وحده في اللّحظة الأخيرة ، لم تكن هناك أي شجرة خروب في الحي الّذي يسكنه فادي ، سأل عدّة أشخاص فلم يهتدي إلى أيّ عنوان ، و قبل أن يقرّر العودة إلى بيته صادف شخص كبير السّن الّذي أخبره بوجود شجرة خروب كبيرة عند أحد المنازل الموجودة في الساحة الفارغة ، حيث لا يوجد أي أحد يسكن بجانب تلك السّاحة ، فرح فادي أنّه وجد ما يبحث عنه بعد البحث الطويل ، لكن الرّجل أخبره بأنّه لم يذهب أحد إلى تلك المنطقة منذ مدّة ، و سأله إذا كان من أقرباء أهل ذلك البيت ، لكنّ فادي أخبره أنّه لا يعرفهم لكن يريدهم في موضوع معيّن ، ذهب إلى العنوان الّذي يبعد ساعة و نصف عن مكان سكنه ، وصل إلى السّاحة ، شاهد شجرة الخروب الكبيرة ، و قد كانت معمّرة ، وجد أحد المنازل الصّغيرة القديمة ، كانت البوّابة مهترئة و عتيقة جداً ، فتحها فادي ، فسقطت الطبقة المطليّة البيضاء عن البوّابة ، و ظهر الصّدأ الذي يأكلها ، سار فادي في ممر صغير تَحفُّه الأشجار الصّغيرة ، و بينما كان يسير سمع صوتاً خلفه ينادي : ” لقد أتيتَ كما توقّعت ” ، التفت فادي ، فلم يجد أحداً ، تابع السّير، وصل إلى باب خشبي صغير كأبواب الأكواخ ، طرق الباب ثلاث مرات ، بعدها فُتِح الباب ، لم يكن هناك أحد يستقبله ، ازدادت حيرة فادي ، كانت الأجواء مخيفة ، صوت غراب ينعق ، مصابيح تضيء تارة و تنطفئ تارة أخرى ، كان المنزل معتماً بعض الشّيء ، لمح فادي أطياف أشخاص تسبح في المكان ، عيون حمراء مضيئة تظهر بوضوح ثم تختفي ، سيطر الخوف على فادي ، قرّر الخروج من البيت ، بحث عن نفس البوّابة ، لم يجدها ، صار يصرخ و يقول : ” أخرجوني من هنا ! أخرجوني ! ” ، عندها سمع صوت امرأة تقول له : ” كيف تترك أقدامك تقودك إلى هنا ؟ ، ألم يحذّرك تياهر ؟ ” ، عندها ردّ فادي بنبرة متردّدة خائفة : ” مَن ؟ مَن أنتِ ؟! من الّذي يتحدّث ؟! ” ، عندها ظهرت امرأة بوجه تكثر فيه التّجاعيد ، و بشعر أبيض طويل ، و عيون تقدح شرراً ، و فم واسع مخيف تسيل منه الدّماء ، زاد رعب فادي ، طمأنته المرأة و قالت له : ” ألم تأتِ بناء على كلام ابني تياهر ؟ ” ، قال : ” نعم ، هل أنتِ أمه ؟ ” ، قالت : ” نعم للأسف ، أنا والدة تياهر ، و هو أصغر أطفالي ، هو عنيد جداً و مشاكس ، يكره الامتثال للأوامر ، هو كسول جداً ، بل من أفضل أبناء عائلتنا الكبيرة ، و لطالما يتخيّل نفسه طالب مدرسة محترم ، يا للعجب ! ، فقد ضقتُ ذرعاً بهذا الابن ، أظنّ أنّني سأتخلّص منه يوماً ما ، أذكر أنّه ذات يوم أخبرني عن إحدى مغامراته ، فقد ذهب إلى احدى المدارس القديمة الّتي يسكن تحتها بيت عمّه ، كان يحب ابتلاع الحبر و يقوم بسرقة الأقلام على الدّوام ، كما يحب أن يضع بصمته باستخدام الدماء التي يحصل عليها من أجساد القطط و الكلاب ، و يبصم بها بكفه على كل الأماكن ، و قد طبع بكف يده على ثوبي الجديد المصنوع من جلد الأفعى ، يا لحظي التعيس ! ، و قال لي : إنّه استمتع بالمقالب الّتي فعلها معك ، من الإمساك بساقك و ترك تلك الكدمة الزرقاء ، فقد حاول قطع ساقك ! لولا أنّ عمّه أعطاه احدى أقدام جثة ميّتة فأكلها ! ، و تخويفك بالريشة السّاخنة الّتي لمست وجهك ، و الّتي لولا صراخي عليه لكانت قد قطعت وجهك إلى جزئين فهي ريشة مصنوعة من خيط ناري من معادن عالمنا السّري ! ، و عندما شعرتَ بوخزة دبوس عند خلف أذنك فقد كانت وخزة من أحد أظافر تياهر و كان مصرّا على قطعها لقليها مع حساء الخضار ! ، و بسببي أنا منعته فقد أعطيته إحدى الأسماك بدلاً منها ، عليك أن تشكرني يا فادي ! ، و انتهاء بذلك الثّقب الأخضر على إبهامك فقد كانت عضّة إحدى المخلوقات الّتي يربّيها ابني تياهر ، و هي سامّة جداً ، و كان عليك أن تذهب للطّبيب ! ، وقف فادي كأنّه قد انسكب عليه دلو ماء متجمّد ، كان يبدو كمن أصابته الصّاعقة ، اختلط الموقف عليه ، كأنّ النار و الجليد قد اتفقا على دهشته و تخويفه ! ، ارتجف بشدّة ، حاول أن يتحدّث ، و كأنّ لسانه قد ارتبط ! ، تلعثم كثيراً ، حتى استطاع في النّهاية تركيب جملة مفيدة ، قال : ” لكن تياهر كان يبدو طيّبا جداً و مسكيناً ! ” ، ردّت المرأة : ” نعم ، هكذا يبدو ابني في البداية ، سأساعدك في إبطال مفعول السّم بشرط ” ، ردّ فادي : ” و ما هو ؟ ” ، قالت : ” كل ما حدث لك من تياهر كان مجرد دعابات ، و أنصحك بأن لا تعود هنا ثانية ولا تخبر أحداً عن حقيقة ابني ” ، قال فادي : ” موافق ” ، قالت المرأة : سأدعك تخرج و تعود إلى بيتك لإكمال ما تبقى من حياتك ، لكن تذكّر أن لا شيء عندي مجاناً ” ، قال فادي : ” لم أفهم ، ألم تخبريني أن شرطك الوحيد هو أن أخرج من هذا المكان و ألاّ أعود أبداً و أن لا أخبر أحداً عن حقيقة تياهر ؟ ” ، قالت : ” نعم ، قلت كلمة ( بشرط ) لكن لم أقل عبارة ( شرط وحيد ) ” ، ردّ فادي : ” لم أفهم قصدك ” ، ردّت : ” تذكّر عبارة تياهر الأخيرة ، و ستفهم كل شيء ! ، هيا أخرج بسرعة ” ، عندها خرج فادي مسرعاً بكل ما يملك من قوّة ، وصل إلى السّاحة و توقّف عند شجرة الخروب الكبيرة ، حاول تذكّر عبارة تياهر الأخيرة : ” أسكن في بيت صغير بجانب شجرة الخروب الكبيرة ، لكن إذا قرّرتَ أن تزورنا إحرص على سلامة أغلى ما تملك ! ” لم يفهم شيئاً عندها ، لكنّه قرّر أن يخرج مسرعاً من ذلك المكان المخيف قائلاً : ” لن أهتم ، المهم أن أخرج الآن ! ” ، وصل إلى البوابة ، و فجأة ظهر تياهر يضحك بشدّة ، و يقول : ” أتمنى أنّك لم تغضب منّي بسبب مقالبي المضحكة ! ” ، لم يُعره فادي أيّ اهتمام ، استمر بالمشي ، خرج من البوّابة ، سمع تياهر يقول : ” ألم أقل لك أنّه إذا قرّرت أن تزورنا إحرص على سلامة أغلى ما تملك ! ” ، و بعدها سمع فادي صراخ تياهر يبكي بشدّة و يستغيث و استمر كثيراً بذلك حتى اختفى صوته ، دون أن يلتفت فادي ، استمر فادي في السّير عند الشّارع المقابل للسّاحة ، ليسمع صوت تلك المرأة تقول : ” ابنتك لينا أصبحت لنا ستكون من نصيبنا عوضاً عن ابننا تياهر رافض الأوامر ! ” . ليلتفت فادي فلم يجد أي ساحة ولا شجرة ولا بيت ، عاد إلى بيته ليجد زوجته تبكي و تقول : ” اختفت لينا فجأة ، اختفت ابنتنا العزيزة ، اختفت أغلى ما نملك !! ” .
✍️ فادي زهران

Avatar

صحيفة نحو الشروق

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

Related Posts

الغدر للشاعرة اللبنانية ملفينا ابومراد

الغدر**الغدرُ سيفٌ لا يُرى في قبضَةٍيُخفي ويَجرح، لا نُميّزُ مقرَّهُ نخشى الخيانةَ في العيونِ، فإنّهاسرٌ يُدارُ، ولستَ تدري مفرَّهُ يَجرح، يُضني، يَقتلُ الأحبابَ فيصمتٍ، فتَبهَتُ في العيونِ ممرَّهُ ضَحايا الغدرِ…

بغداد عاصمة الثقافة والفنون على موعد مع حدث موسيقي استثنائي

تشهد بغداد يوم الثلثاء الاول من نيسان حفلاً مميزًا من موسيقيين العالممع الاوركسترا الفنلندية العربية على المسرح الوطنيو التي ستقدّم من خلاله مجموعة من أشهر الأغاني و المقطوعات الموسيقية لمؤلفينَ…

اترك تعليقاً

مختصرات

معركة حقوق وكرامة : صفاء سلطان ترفع دعوى قضائية ضد فارس اسكندر!

  • مايو 16, 2025
  • 56 views
معركة حقوق وكرامة : صفاء سلطان ترفع دعوى قضائية ضد فارس اسكندر!

إثارة وتشويق في ” فرانكلين “

  • مايو 16, 2025
  • 44 views
إثارة وتشويق في ” فرانكلين “

فضل شاكر يطلق أغنيته الجديدة “وغلبني” عبر المنصات الرقمية

  • مايو 14, 2025
  • 46 views
فضل شاكر يطلق أغنيته الجديدة “وغلبني” عبر المنصات الرقمية

الموسيقى تفتح أبوابها على عوالم السحر: حفل بيانو لعازف بولوني في قصر النجمة الزهراء

  • مايو 13, 2025
  • 54 views
الموسيقى تفتح أبوابها على عوالم السحر: حفل بيانو لعازف بولوني في قصر النجمة الزهراء

يالله ببقلم الشاعر الدكتور عمار القحوي

  • مايو 9, 2025
  • 88 views
يالله ببقلم الشاعر الدكتور عمار القحوي

ياقدس بك مركعي للشاعرة اللبنانية ملفينا ابومراد

  • مايو 9, 2025
  • 70 views
ياقدس بك مركعي  للشاعرة اللبنانية ملفينا ابومراد