الفڨارة إرث عريق يأبى الزوال … تضحيات الماضي وتحديات وٱفاق الحاضر بقلم ” عبد القادر مروان مولاي”📘

الفڨارة إرث عريق يأبى الزوال … تضحيات الماضي وتحديات وٱفاق الحاضر.
_____________________________________

في عمق الصحراء الافريقية الكبرى ، وبين كثبان الرمال ، وأشعة الشمس الحارقة ، تقع واحات منطقة توات (1) ، الضاربة في عمق التاريخ . قدم إليها جموع البشر من كل حدب وصوب ، مشكلين حضارة خلفت إرث علمي وثقافي عريق ظل شاهدا على عبقرية من عاش في المنطقة.

لم تكن لتبن وتشيد هذه الحضارة العريقة لولا وجود أهم مورد يحتاجه الانسان ليعيش ، الماء إكسير الحياة وسر الوجود يقول تعالى : (( وجعلنا من الماء كل شيء حي)) (2) . ومن المعلوم أن منطقة توات كونها منطقة صحرواية ، لاتوجد بها مصادر مياه سطحية كالانهار و الوديان .. إلا نادر أو ما توفر باطن الأرض من مياه جوفية.

قام الإنسان ومنذ غابر الأزمان ، بابتكار عدة أنظمة تمكنه من الحصول على المياه وتوفيرها ، من بينها “الفڨارة” . والتي تعد نظام بديع عجيب ، ساهم في استقرار ساكنة الأقاليم التواتية “قورارة ، توات ، تديكلت” . يستخدم للسقي والشرب ، وقد وصفها ابن خلدون بقوله : « في هذه البلاد الصحراوية إلى وراء العرق طريقة غريبة في استنباط المياه الجارية لاتوجد في تلول المغرب ، وذلك أن البئر تحفر عميقة بعيدة المهوى وتطوى جوانبها الى أن يصل بالحفر إلى حجارة صلدة فتحت بالمعاول والفؤوس ، إلى أن يرق جرمها ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقاتها عن الماء فينبعث صاعدا فيعم البئر ثم يجري على وجه الأرض واديا ، ويزعمون أن الماء بسرعته عن كل شيء هذه الطريقة الغريبة موجودة في قصور توات و تنجورارين و ورقلة و ريغ ، والعالم ابو العجائب والله الخلاق العظيم » (3) .

“الفڨارة” هي سلسلة آبار مترابطة مع بعضها البعض ، تنحدر من منطقة مرتفعة باتجاه المناطق أقل انخفاضا ، وعادة ما يكون اتجاهها من الشرق إلى الغرب ، نحو الواحات و البساتين والتجمعات السكانية . تنساب فيها المياه بطريقة سلسة دون استخدام أي نوع من المضخات ، إلى آخر جزء من سلسلة الآبار . وكلمة “الفڨارة” يقال أن معناها “ألف غار” اي “ألف بئر” ، أو هي مأخوذة من فقرات العمود الفقري لتشابهها له في تسلسلها وترابطها ، وهناك من يرى أن أصل الكلمة فجارة من تفجير الماء ، مع عامل الزمن وتداول اللفظ بين العوام تحولت الكلمة إلى “فڨارة” ، وهناك رأي مستبعد جدا مفاده انها كلمة مشتقة من الفقر ضد الغنى (4).

تتكون “الفڨارة” من بئر رئيسي يكون في بداية سلسلة الابار يكون أكثرها عمقا واكبرها دفعا للمياه ، ثم آبار الخدمة وهي التي تاتي بعد البئر الرئيسي وتستعمل لتنظيف وصيانة وزيادة مياه الفقارة . وعملية الصيانة تأخذ من المجتمع افراد متخصصين ومميزين ، كل باسمه وعمله ، مملثين في “الوقاف” هو المكلف المباشر وجاءت تسميته من وقوفه المستمر على العمال ، “القطاع” هو الذي يحفر ويقطع الصلب من الحجارة أثناء عملية الحفر ، و “الجباد” هو من يتولى عملية اخراج التراب (5) من العامل الأول “القطاع” الذي يكون في قاع البئر ، وتتم هذه العملية بواسطة ادوات يدوية محلية الصنع . ثم يأتي “أغيسرو” (6) وهو آخر جزء في سلسلة الابار ومكان خروج المياه ، من باطن الارض الى سطحها ، ويجمع كل هذه الاجزاء نفق جوفي يسمى “النفاد” (7) يربط بين ابار “الفڨارة” ، يختلف حجمه حسب قوة مياهها . ثم يأتي “المجرى الرئيسي” ، وهو عبارة عن ساقية كبيرة (8) عادة ما تكون مكشوفة ، لتلبية حاجيات السكان قبل قدوم الحنفية ، و “القصرية” وهي اعجب العجائب في النظام البديع ، واهم مكوناته و انعكاس لذكاء ودراية وإحاطة انسان بالمنطقة بالعلوم ، خصوصا الحساب تصنع بعناية بالغة من حجر صلد مضاد للتٱكل ، تتشكل من مسننات مستطيلة الشكل ، تنحت بعناية بالغة بواسطة ادوات خاصة ، بين السن والأخرى فراغ يحدد نصيب الشخص من المياه ، تنقسم بدورها الى رئيسية وفرعية ، عادة ما تتواجد في مدخل البساتين والحقول ، و تتفرع منها سواقي فرعية ، تصب في حوض مائي يسمى “الماجن” (9) هو المكان الذي يتجمع فيه الماء القادم من الفڨارة ، لسقاية بساتين الواحات.
بما أن “الفڨارة” شيء يشترك فيه جميع ساكنة القصر ، فان توزيع مياهها يحتاج الى خبرة وعلم بحيثيات هذا للنظام ، توظف في ذلك قوانين شرعية مستمدة من الشريعة الاسلامية (10) ، وأساليب علمية عملية لتكون العملية شفافة وعادلة ، تسمى ب “الكيل” ، يتكفل بها شخص يدعى “الكيال” يكون من شيوخ وثقات القصر او المنطقة (11) ، يقوم بمساعدته “الحساب” وهو شخص مرافق له . يقوم بعملية الحساب باستخدام أداة يطلق عليها اسم “الشڨفة” او “الحلافة” وهي ٱلة مصنوعة من البرونز ، بها ثقوب مختلفة الأشكال و الاحجام (12) : «…كان أهل الصحراء يستعملون المكاييل خاصة ، لتقدير مياه السقي فكانوا في البداية يعبرون بالعين دون مكيال خاص ، ولأول مرة في عهد مولاي الرشيد العلوي جاء الجابي المسؤول عن إحصاء مقادير المياه ، من اجل تحديد الزكوات والاعشار بلوحة من نحاس مثقوبة ، لتقدير المياه وكانت هذه اللوحة مستعملة في مناطق أخرى من بلاد المغرب وهذا هو أصل مايسمى بالكيل الأصغر ..» (13) و وحدة القياس المستخدمة في ذلك هي “الحبة” ، “القراط” و أجزائهما (14). : «…و وحدة الكيل في هذا النظام هي الحبة أو الاصبع ، أي كمية الماء التي تمر خلال يوم وليلة من ثقب في لوح نحاسي محدد تقريبا بحجم الإبهام…» (15) . يقوم الكيال بتسجيل نصيب كل شخص من المياه ، وكل المعلومات التي تتعلق “بالفڨارة” في سجل خاص يسمى “الزمام” ، وتتكرر العملية كلما زاد او نقص منسوب مياهها (16) . وتجدر الإشارة الى أن سلسلة آبار “الفڨارة” في بعض قصور المنطقة تصل الى أكثر من “800” بئر (17) .

يقول إبن خلدون في تاريخه «…وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدراريين ووركلان..» (18) . من المعلوم أن منطقة توات كانت تتميز بنشاط اقتصادي مزدهر ، بسبب موقعها كونها نقطة عبور القوافل التجارية وقوافل الحجيج المتجهة نحو الحجاز وهمزة وصل بين المدن الكبرى في شمال وجنوب الصحراء الافريقية ، وكل هذا ما كان ليكون لولا “الفڨارة” التي حفرها الأولين ، باستعمال ادوات يدوية تقليدية مثل “اجلجيم” (19) و”الحمارات” (20) وحبل مصنوع من ألياف النخيل “الفدام” ، يربط ب “التڨسات” او “الدلو” التي تنسج يدويا من زعف النخيل لإخراج الرمال والطين بواسطة “الجرارة” وهي بكرة تعلق في “الحمارات” تسهل عملية سحب الحبل ، وعندما ينزل العمال المختصين إلى أعماق “الفڨارة” ويغشاهم الظلام ، يشعلون مصباح يدوي يسمى محليا ب “الكانكي” . وحتى طريقة ربط “الفڨارة” بالاخرى وعملية حفر “النفاد” ، يعتمدون فيها فقط على أصواتهم وأصوات معاولهم . تعرضوا خلال عملية الحفر والصيانة الى كل أنواع المحن والمعاناة ، في سبيل إيصال الماء إلى قصورهم وساكنتها ، احتملوا حر الصيف وبرد الشتاء و الجوع لدرجة انهم قاموا بطحن “علف” نواة التمر لسد جوعههم لقلة الطعام ومواصلة السير على الدرب للنهاية . هناك من قضى نحبه فيها ومنهم من بلغ في العمر عتيا ليحكي أهوال ما رأى من معاناة ، و حتى من كتب له طول العمر عانى في اخر حياته جراء ماكان يقوم به من عمل شاق في شبابه .

جفت الكثير من “الفڨارات” نتيجة غياب الصيانة والاهمال ، قدر عددها ب 500 “فڨارة” تموت سنويا (21) . والملاحظ أن أبار “الفڨارة” التي تعاني من الاهتراء خصوصا عندما تكون بالقرب من التجمعات السكنية حديثة البناء ، فكلما ابتعدنا عن هاته التجمعات نجد أن الكثير من هاته “الفقاقير” لازال يحتوي على المياه ، اما سيئة الحظ التي جاورها الانسان بطشت بها يده ، فمنها ما أصبح مكب للنفايات ببساطة لتعود بالضرر عليه بالروائح الكريهة والحشرات خاصة ايام الحر ، واخرى طمرت بالتراب في مدة قياسية . واصبحت في خبر كان كانها لم تكن في حين استغرقت مدة حفرها شهورا وسنوات.

بالرغم من “الفڨارة” و مهنة “الكيال” صنفت في لائحة التراث الثقافي العالمي لمنظمة “اليونيسكو” والجهود الحثيثة من طرف السلطات المحلية في الاونة الاخيرة ، في سعيها لحماية هذا الارث العريق من الضياع ، إلا أن اوضاعها تزداد سوءا يوما بعد يوم ، لكن هذا لا يمنع من أن تعود الفقاقير إلى عنفوانها وسابق عهدها وتدب فيها الحياة من جديد ، إذا تظافرة الجهود ووضعت اليد في اليد وإحياء الضمير الاجتماعي لضمان حدوث كل ذلك.
_______________________________التهميش

1- تقع بالجنوب الغربي للجزائر ، يتبع قسمها الكبير لولاية ادرار اما “عين صالح” تابعة لولاية تامنراست ، ذكرها ووصفها العديد المؤرخين في مؤلفاتهم ، على غرار “ابن خلدون” في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر » في عدة مواضع . و”ابن بطوطة” في كتابه «غرائب الامصار وعجائب الاسفار» . و “عبد الرحمن السعدي” ذكرها في كتابه «تاريخ السودان» ، وغيرهم كثير من المؤرخين من داخل وخارج المنطقة.
2- سورة الانبياء الاية 29/30
3- ابن خلدون . العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر . ص 77 دار الكتاب اللبناني . 1983 . بيروت . لبنان .
4- لسان العرب لأبن منظور المجلد الخامس ص 60
5- د. أحمد أبا صافي جعفري . ابحاث في التراث من تاريخ توات . الطبعة الاولى 2011 . منشورات الحضاراة . ص 621.
6-هو مكان خروج مياه الفقارة ، وتتجمع فيه جميع مياهها باتجاه القصرية ، مشكلة المجرى الرئيسي.
7- هو ممر ارضي يربط بين الفڨارة والاخرى ، او يحفر اذا وجد جيوب مائية لجلب المياه للنفاد الرئيسي .
8- الساقية ممر مائي كان يصنع قديما من الطين ، اما في يومنا الحالي فتصنع من الاسمنت ، وفق معاير معلومة تاخذ في الحسبان ارتفاع وانخفاض الارض … لضمان السلامة في جريان المياه ، يختلف حجمها باختلاف مصدرها .
9- حوض مائي يكون في أول البستان يستعمل للسقاية ، مثلها مثل الساقية قديما كانت تصنع من الطين . حيث انه بعد تجهيز المواد الضرورية والمكان تضرب الطين بالهروات حتى ترص جيدا لتحتفظ بالمياه ، ترمم مرة في العام على الاقل لانها معرضة للتلف والتخريب ، من طرف حشرة “توشن” او بفعل نمو الاعشاب فيها مما يؤدي الى تشققها وبالتالي ضياع المياه ، ولهذا في يومنا الحاضر تصنع من الاسمنت.
10- د. احمد ابا صافي جعفري . ابحاث في التراث من تاريخ توات . ص 623
11- يمكن أن يشترك اكثر من قصر في كيال واحد نظرا لقلة من يمتهن هذه المهمة ومن كيال المنطقة ” السي عبد الرحمن خافي ، عبد الكريم الكيال ، السي عبد الله بن وليد …”
12- الشڨفة مختلفة الاحجام الكبيرة و المتوسطة و الصغيرة ، تستعمل الكبيرة لحساب كمية المياه في القصرية الرئيسية والتي تكون فيها مياه كثيرة ، والمتوسطة و الصغيرة تستعمل في القصريات الفرعية وحين تكون المياه بكمية اقل .
13- مؤلف مجهول . مخطوط منطقة توات خلال خمسين سنة قبل الميلاد . خزانة كواسام . ولاية ادرار . ص 31 .
14- منها أنفيف و الماجل هو اربعة وعشرين قراط و القيراط و قيراط القيراط..
15-مؤلف مجهول . مخطوط احداث منطقة توات خلال خمسين سنة قبل الميلاد .
16- عملية الكيل لاتحدث في فصلي الشتاء و الصيف ، لان منسوب المياه في الشتاء يكون مرتفع والعكس في الصيف ولذلك غالبا ما تحدث في فصلي الربيع و الخريف ، نظرا لأسقرار وثبات منسوب المياه ايضا تحدث عملية الكيل بعد كل عملية صيانة .
17- د . أحمد اباصافي جعفري . اللهجة التواتية الجزائرية معجمها بلاغتها امثالها حكمها وعيون اشعارها الطبعة الاولى .2014 . منشورات الحضاراة . ص 298 حتى ص 358 .
18- ابن خلدون . كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر . المجلد الاول . الجزء الاول ص 93.
19- أداة يدوية الصنع شبيهة بالفأس يستعمل لكسر الحجارة والحفر في الارض الصلبة
20-الحمارات (بتشديد الميم) تصنع من ثلاث اعمدة من الحديد او الخشب ، تعلق فيها للحرارة التي تحسب بواسطتها الحبل من قاع البئر.
21- الوكالة الوطنية لمصادر المياه . فرع ادرار .
عبد القادر مروان
مولاي

Avatar

صحيفة نحو الشروق

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

Related Posts

مركز التدريب والتأهيل العالمي GTC بوابتك نحو النجاح المهني

مركز التدريب والتأهيل العالمي GTC هو مؤسسة تعليمية متخصصة تهدف إلى توفير برامج تدريبية متميزة تساهم في تطوير المهارات وتعزيز فرص العمل للمشاركين. يعمل المركز بالتعاون مع #الشبكةالأهليةللتعليم NEN، وهو…

الشيف عبير الصغير تكشف عن خطيبها في فيديو وجلسة

الشيف عبير الصغير تكشف عن خطيبها في فيديو وجلسة تصوير مميزة فاجأت الشيف اللبنانية عبير الصغير متابعيها بالكشف عن خطيبها من خلال مقطع فيديو وجلسة تصوير راقية نُشرت عبر حساباتها…

اترك تعليقاً

مختصرات

في سحره غنى الفؤاد بقلم الشاعر الدكتور عمار القحوي

  • مايو 7, 2025
  • 38 views
في سحره غنى الفؤاد بقلم الشاعر الدكتور عمار القحوي

إحتفالا باليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة

  • مايو 4, 2025
  • 82 views
إحتفالا باليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة

احتفاءًا باليوم العالمي لحرية الصحافة

  • مايو 3, 2025
  • 67 views
احتفاءًا باليوم العالمي لحرية الصحافة

مركز التدريب والتأهيل العالمي GTC بوابتك نحو النجاح المهني

  • مايو 1, 2025
  • 84 views
مركز التدريب والتأهيل العالمي GTC بوابتك نحو النجاح المهني

المخرج محمد خميس يشجع على حضور مهرجان مالمو للسينما العربية

  • أبريل 27, 2025
  • 32 views
المخرج محمد خميس يشجع على حضور مهرجان مالمو للسينما العربية

نقابة الفنانين في سورية تكرّم فضل شاكر و تكشف سر منحه العضوية

  • أبريل 26, 2025
  • 42 views
نقابة الفنانين في سورية تكرّم فضل شاكر و تكشف سر منحه العضوية